
أفضل 5 مواقع أثرية مدرجة في اليونسكو في تركيا يجب زيارتها
تزخر تركيا بمشهدٍ ثقافي متعدّد الطبقات يندر أن تجده بهذه الكثافة في بلدٍ واحد؛ مدنٌ قديمة ازدهرت على طرق التجارة وعواصم لإمبراطوريات متعاقبة وعمارةٌ دينية ومدنية تشهد لتلاقح حضاراتٍ من الحثّيين إلى العثمانيين، صُمِّم هذا الدليل ليخدم المسافر الباحث عن المعرفة الذي يريد أن يفهم لماذا أُدرجت هذه المواقع على قائمة التراث العالمي؟ ما القصص التي تحكيها هذه المواقع وكيف تميزت عن غيرها.
1- طروادة: أسطورةٌ حيّة بطبقات أثرية
تقف طروادة كواحدة من أشهر المدن الأسطورية والتاريخية في العالم عمرها يمتد لأكثر من 4000 عام، كشفت التنقيبات منذ القرن التاسع عشر عن طبقات متعددة لمدن بُنيت واحدة فوق أخرى مما جسّد أول تواصل حضاري موثق بين الأناضول وعالم البحر المتوسط القد، وقد خلّد هوميروس ذكرى حصار طروادة في القرن الثالث عشر قبل الميلاد في ملحمته الإلياذة وهو الحدث الذي ألهم فناني العالم عبر القرون.
السير بين أسوار طروادة القديمة اليوم يعني السير على خطى أبطال الإلياذة؛ فما زالت بقايا أسوارها الحجرية الضخمة صامدة شاهدة على ماضيها المجيد، وكانت الأسطورة تروي أن الآلهة بوسيدون وأبولو شيدا هذه الأسوار ومنحاها قوتها، ستشعر في طروادة بعبق الميثولوجيا والتاريخ فالمدينة التي كانت جسراً ثقافياً بين بحر إيجه والأناضول لطالما أثارت خيال البشر منذ العصور القديمة.
عند زيارة طروادة اليوم ستتاح لك فرصة السفر عبر الزمن إلى عالم الأساطير، حيث يمكن للزائر تأمل بقايا معبد أثينا والمسرح الروماني والتعرف على طبقات المدينة التسعة الممتدة من العصر البرونزي حتى الحقبة الرومانية، لا تفوّت التقاط صورة أمام حصان طروادة الخشبي عند مدخل الموقع - مجسم رمزي أُقيم عام 1975 كاعادة تجسيد للحيلة الأسطورية التي استخدمها الإغريق لاقتحام المدينة بعد حصار طويل، تخيّل الجنود المختبئين داخل هذا الحصان الخشبي العملاق وكيف أنهى خداعهم حربًا دامت عشر سنوات، في طروادة ستلمس تداخل الأسطورة بالواقع؛ فكل حجر وكل ركن فيها يروي قصة حرب طروادة الشهيرة ويحفزك لتخيل بطولاتها مما يجعل زيارتها تجربة حية لا تُنسى لعشاق التاريخ والثقافة.
موقع حديقة طروادة على خرائط جوجل

2- بورصة وقرية كوماليكيزيك: مولد الدولة العثمانية
في أحضان سفوح جبل أولوداغ شمال غرب الأناضول تقع مدينة بورصة التاريخية تحرسها قرية كوماليكيزيك الريفية، حيث يمثل الموقعان معًا مهد نشأة الدولة العثمانية في أوائل القرن الرابع عشر، كانت بورصة أول عاصمة للإمبراطورية العثمانية وقد ازدهرت كمركز سياسي وروحي بفضل نظم التخطيط الحضري المبتكرة التي اعتمدها السلاطين الأوائل، تميزت المدينة ببناء مجمعات وقفية شاملة للمساجد والمدارس والحمّامات والمطابخ العامة حولها سميت هذه المحمعات “كُليّات” حيث شكّلت كل كُليّة نواة حيٍ جديد في المدينة، وإلى اليوم يمكن رؤية تلك المجمعات التاريخية مثل مجمع يلدرم بايزيد ومجمع مراد الثاني التي رسمت حدود بورصة القديمة وأسست لفن عمارة عثماني فريد يعرف بـ"طراز بورصة" المتميز بالمساجد ذات المخطط T المقلوب، كما تمتد جذور بورصة الروحية في وجود أضرحة مؤسسي الدولة؛ حيث يوجد في تربة هذه المدينة ضريح عثمان غازي ورفيقه أورخان.
عند التجول في بورصة يمكنك زيارة المسجد الكبير (Ulu Camii) بمآذنه الشامخة ونقوشه التاريخية، وكذلك سوق الحرير (Koza Han) التاريخي الذي ينبض بعبق التجارة العثمانية، في كل زاوية تشعر بعبير البدايات حيث كانت هذه المدينة شاهدة على ولادة إمبراطورية عظيمة حكمت العالم، وعلى مسافة قصيرة من بورصة تقع قرية كوماليكيزيك بجمالها الريفي الأصيل وبيوتها الحجرية والخشبية التي تعود لعصر تأسيس الدولة، وتُعد كوماليكيزيك أفضل مثال محفوظ للقرية العثمانية الوقفية التي خُصّصت مواردها لرعاية مجمع ديني في بورصة (مجمع أورهان غازي)، ويمكن للزائر التنزه في أزقتها المرصوفة بالحصى بين بيوت عمرها 700 عام، وتذوق إفطار قروي تقليدي يعيدك إلى زمن البساطة.
إن زيارة بورصة وكوماليكيزيك هي تجربة تنبض بالتاريخ الحي؛ ستلامس فيها روح العصر العثماني الوليد وتتخيّل همّة سلاطينه الأوائل في كل مسجد وتكية وسوق، هذا المزيج بين عظمة المعالم السلطانية ودفء الحياة القروية يجعلهما وجهة ملهمة تدعوك لاكتشاف جذور الحضارة العثمانية بكل حماس.

3- قلعة ديار بكر وحدائق هيفسل: أسوارٌ بازلتية وحدائق دجلة
على ضفاف نهر دجلة في أعالي الجزيرة الفراتية تنهض أسوار قلعة ديار بكر المهيبة لتروي حكاية مدينة عصية على الزمن، كانت ديار بكر مركزًا حضاريًا مهمًا منذ العهد الهلنستي وواصلت ازدهارها خلال العصور الرومانية والساسانية والبيزنطية والإسلامية والعثمانية بلا انقطاع، تحيط بالمدينة أسوار ضخمة من الحجر البازلت الأسود تمتد بطول 5.8 كيلومتر وتضم أكثر من 80 برجًا وأربع بوابات رئيسية وتحمل 63 نقشًا كتابيًا من حقب مختلفة وتعد من أطول وأروع أسوار المدن التاريخية في العالم، داخل هذه الأسوار تجد قلعة إشكاله (القلعة الداخلية) التي احتضنت قصور الأمراء على مر العصور، وقد صمدت ديار بكر كحصن منيع تعاقبت عليه حضارات متعددة مما جعلها مرآة نابضة بالتنوع الثقافي والديني عبر التاريخ في قلب منطقة الهلال الخصيب.
ولا تكتمل زيارة ديار بكر دون نزهة على أسوارها القديمة والتأمل بإطلالة بانورامية على حدائق هيفسل الخضراء أسفلها، هذه الحدائق التاريخية الممتدة بين المدينة ونهر دجلة كانت بمثابة الشريان الحيوي الذي أمّد أهل ديار بكر عبر القرون بالفاكهة والخضراوات والمياه، يمكن للزائر التجول في متنزهات هيفسل التي تصدح فيها أصوات الطبيعة على مقربة من حجارة الأسوار الصامدة، وفي داخل البلدة القديمة ستكتشف مساجد عتيقة كالمسجد الكبير وكنائس تاريخية وأسواقًا تقليدية تعكس جميعها تراث المدينة متعدد الثقافات، اصعد إلى أحد الأبراج القديمة مثل برج الماعز (Keçi Burcu) وتأمل غروب الشمس الذهبي وهو يلقي بظلاله على دجلة وحقول هيفسل، إن أجواء ديار بكر تجمع بين رهبة التاريخ وخصوبة الطبيعة وتدعوك للغوص في حكايا ألف عام من الحضارة، سوف تغادرها محملاً بالإلهام بعد أن شهدت بنفسك عظمة الأسوار التي لم تكسرها السنين وخصوبة الأرض التي منحت الحياة لهذه المدينة الأسطورية.
موقع قلعة ديار بكر على خرائط جوجل

4- أفسس: متحفٌ مفتوح من الهلنستية إلى الرومانية
تأخذك أفسس في رحلة إلى عالم المدن العظيمة للعصرين الهلنستي والروماني، كانت هذه المدينة الساحلية القديمة إحدى كبريات مدن آسيا الصغرى ومركزًا تجاريًا وروحيًا بارزًا للإمبراطوريتين اليونانية ثم الرومانية، كشفت الحفريات عن مكتبة سيلسوس Celsus Kütüphanesi ذات الواجهة المزخرفة التي لا تزال قائمة، وعن المسرح الكبير الذي يتسع لآلاف المشاهدين حيث يُعتقد أن رسول المسيح بولس خاطب أهل أفسس قديمًا، كم يوجد بقايا أعمدة وأساسات لمعبد أرتميس الشهير - أحد عجائب الدنيا السبع في العالم القديم - والذي كان وجهة الحجاج من كافة أرجاء المتوسط، وفي ضواحي أفسس تجد أطلال كنيسة القديس يوحنا وقلعة بيزنطية بالإضافة إلى بيت مريم العذراء على سفح الجبل القريب الذي أصبح مقصدًا مقدسًا للمسيحيين، إن هذا التداخل بين تراث وثني ومسيحي يمنح أفسس طابعًا ثقافيًا غنيًا على مستوى عالمي.
عند تجولك في الشوارع الرخامية اللامعة التي ما زالت محفوظة في أفسس ستشعر وكأنك تسير جنبًا إلى جنب مع مواطنيها القدماء، اذهب إلى قوس بوابة هركليس وانطلق في شارع كوريتس بين أعمدة المعابد ودور الحمّامات الرومانية، ستأسرك واجهة مكتبة سيلسوس المزخرفة بمنحوتاتها ونقوشها الإغريقية التي صمدت منذ القرن الثاني الميلادي، تقدّم نحو المسرح العظيم واصعد درجاته؛ من هناك تخيّل المشهد قبل ألفي عام عندما كان جمهور من خمسين ألف متفرج يحتشدون لسماع الخطب ومشاهدة العروض، وعلى مقربة منه زر موقع معبد أرتميس وتصور الأعمدة الرخامية وهي شامخة يومًا ما تستقبل الحجاج القادمين بانبهار، يمكن للزائر أيضًا زيارة منزل مريم العذراء الهادئ أعلى التل والاستمتاع بمناظر فريدة.
إن أفسس أكثر من مجرد أطلال صامتة؛ إنها مدينة تنبض بالتاريخ، ففي أزقتها صدحت خطى القديسين وعلى مسرحها دوّت أصوات الخطباء، وتحت ظلال معابدها نُسجت الأساطير، زيارتها تجربة غامرة بكل معنى الكلمة، ستجعلك تغادر وأنت مشبع بروعة الحضارة الكلاسيكية وعظمة التراث الإنساني.
موقع مدينة افسيس الأثري على خرائط جوجل

5- أفروديسياس: عاصمة الرخام والفن
في وادٍ خصب تحيط به الجبال جنوب غرب تركيا تكمن كنوز مدينة أفروديسياس الأثرية التي حملت اسم إلهة الحب والجمال عند اليونانيين أفروديت، كانت أفروديسياس في العصور اليونانية والرومانية مركزًا فنّيًا وثقافيًا مرموقًا إذ اشتهرت بمدرسة النحت الرخامية التي أنتجت أعمالًا أبهرت العالم القديم، يعود تاريخ معبد أفروديت الضخم في قلب المدينة إلى القرن الثالث قبل الميلاد، وقد بُنيت المدينة وتطورت حوله ابتداءً من القرن الثاني قبل الميلاد، ساهم وجود محاجر الرخام الغنية في جوارها في إكساب أفروديسياس ثراءً استثنائيًا؛ فقد كانت تلك المحاجر المصدر الرئيسي لرخام ناصع استخدمه نحاتو المدينة المهرة في صنع تماثيل ومنحوتات انتشرت في أرجاء الإمبراطورية الرومانية.

زيارة أفروديسياس اليوم هي بمثابة التجول في متحف مفتوح ينبض بالفن الكلاسيكي، يمكنك بدء جولتك من بوابة التترابيلون الشهيرة، وهي بوابة ذات أربعة مداخل مزخرفة كانت تقود إلى حرم معبد أفروديت، أعيد تجميع أعمدتها المزخرفة ومنحوتاتها الجميلة لتستعيد شيئًا من بهائها الأصلي، وعند المرور تحتها ستشعر حقًا بعظمة المدخل الذي كان يستقبل الحجاج قبل ألفي عام، بعد ذلك توجه نحو المعابد الرخامية وخصوصًا معبد أفروديت الذي تحول لاحقًا في القرن السادس الميلادي إلى كاتدرائية مسيحية؛ هنا سترى مزيجًا مدهشًا بين عمارة المعبد الوثني وملامح الكنيسة في مثال فريد على تحويل دور العبادة عبر الزمن، ولا تنسَ زيارة المسرح الواقع على سفح الأكروبول الصغير والذي يحتوي مقاعده نصف الدائرية منحوتة في الصخر وتطل على المنصة التي شهدت عروضًا فنية وخطبًا سياسية في العصر الروماني، وبالقرب من المسرح ستجد ما يسمى جدار الأرشيف حيث عُرضت نقوش كتابة رسمية مهمة بما فيها مراسيم الإمبراطور حول وضع أفروديسياس الخاص كمَدينة مُعفاة من الضرائب تقديرًا لمكانتها.
من أكثر معالم أفروديسياس إثارة للإعجاب أيضًا الاستاد الضخم الذي يتسع لنحو 30 ألف متفرج ويبلغ طوله 270 مترًا على شكل بيضوي، يمكنك المشي في مضمار هذا الاستاد والتخيل أنك وسط حشود المشجعين الذين كانوا يتابعون المسابقات الرياضية قبل ألفي عام، هذا الشعور بنبض الحياة القديمة سيلازمك أثناء جولتك، وأخيرًا قم بزيارة متحف أفروديسياس المجاور للموقع حيث تُعرض التماثيل والنقوش الرخامية الأصلية التي وجدت بما فيها تماثيل الأباطرة وتمثال أفروديت نفسه بنسخته المحلية الفريدة، ومع انتهاء زيارتك ستدرك لماذا تُعد أفروديسياس درة مخفية بين مواقع تركيا الأثرية؛ فهدوؤها الريفي وجمالها الفنّي الأخاذ يمنحان الزائر إحساسًا بالصفاء والإلهام، إنها وجهة مثالية لعشاق التاريخ والفن حيث تلتقي فيها أسطورة أفروديت بروائع الإبداع الإنساني في تناغم لن تجد له مثيلًا في مكان آخر.
موقع مدينة أفروديسياس الأثري على خرائط جوجل

ختامًا، تمنحك المواقع الأثرية في تركيا رحلةً مركّزة عبر طبقاتٍ من الجمال والتاريخ الحي، اختر مسارك وفق موسم السفر المفضل لديك وخصص وقتاً للتأمل في التفاصيل المعمارية والقصص التي تحكيها الأحجار، استعن بروابط الخرائط التي اضفناها ضمن المقال للوصول للمناطق الأثرية ووازن بين التجربة الثقافية والأنشطة المفتوحة في كل موقع، العودة من هذه الرحلة تعني حمل ذاكرة أعمق بالتراث الإنساني، ورغبةً حقيقية لاكتشاف المزيد.
اقرأ أيضًا: